بدأ عصر الزراعة في بلاد الرافدين, وهو أول عهد للإنسان بتعلم الزراعة, بحدود سنة 9000 قبل الميلاد وتطور حوالي سنة 5500 ق.م. في قرية (جرمو) في شمالي العراق في أواسط العصر الحجري الحديث. ومن البديهي أن تكون الزراعة عصرئذ محدودة وعلى نطاق ضيق جدا.
الأكدية سرجون خمسة وخمسين عاما أدخل خلالها الكثير من الإصلاحات على نظام الحكم والجيش بما في ذلك تطوير أساليب الحرب والسلاح. وكذلك حصل تقدم عظيم في العمارة والفنون بعامة التي تميزت في العصر الأكدي بالقوة والحيوية والحركة. ويعد (نرام - سين) أقوى ملوك السلالة لأاكدية الذي حكم زهاء أربعين عاما.
مدينة بابل
آخر العهود العراقية الزاهرة في العصور القديمة (626-539ق.م.). ويعد حكم نبوخذنصر الثاني (604-562ق.م.) بحق من العهود المجيدة في التاريخ البشري عموما وفترة انتعاش قوية عاشتها الحضارة البابلية, فلم تسجل الكتابات التي خلفها هذا الملك إلا أخبار البناء والتعمير في جميع مدن العراق المهمة. من أعماله العمرانية الرئيسة كان بناء الزقورة وتشييد عدد كبير من المعابد الفخمة في بابل. وكان من جملة إنجازاته في هذا الميدان أيضا إقامة شارع رائع عرف بشارع الموكب ومدخل مهيب ضخم يدعى بباب عشتار, يقع وراء هذا الباب قصره الفخم بجنائنه المعلّقة الذي عرف في المصادر اليونانية بإحدى عجائب الدنيا السبع.
وفي زمنه أعلنت دولة (يهودا) الصغيرة العصيان مع عدد من الدويلات الشامية الصغيرة الأخرى بتحريض من الفراعنة التي لم تكترث لنصائح النبي (ارميا) وتحذير ملكها (يوهوياقين) بوخامة العاقبة. فجرد نبوختنصر حملة تأديبية لم تقو (يهودا) على مقاومتها فسقطت العاصمة (أورشليم) في عام 596 ق.م. فرحّل قسم من سكانها ومعهم ملكهم عن فلسطين. ونصّب نبختنصر بدلا عنه عمه (صدقيا). وبعد بضع سنوات اشتركت (يهودا) في عصيان جديد وبتحريض من الفراعنة أيضا الذين حاولوا استرجاع مكانتهم في سوريا وفلسطين. لقد كان غضب الملك البابلي في هذه المرة عظيما فدمّر المدينة وأحرق الهيكل ورحّل من سكانها عددا كبيرا جدا إلى العراق واضعا بذلك حدا لمملكة يهودا. لقد وقع ذلك الحدث بسنة 594 ق.م.
خلف هذا الملك العظيم عدد من الملوك الضعاف وبخاصة آخرهم نبونائيد (555-539 ق.م.) فتدهورت الأوضاع في البلاد خلال عهودهم وانتهت تلك الإمبراطورية العظيمة بسقوط بابل على يد (كورش) ملك الإخمينيين بسنة 539 ق.م. وليعفى على حضارة العراق وتطمر علومه وأمجاده لقرون طويلة تلت.
سابعاً: إنجازات العراق القديمة
السواقي وعودة للتاريخ
إذا انتقلنا إلى نشوء أولى الحضارات في العراق القديم يمكن القول إنها كانت بجهود العراقيين الأوائل في تفاعلهم مع البيئة الطبيعية في وسط وجنوبي العراق. فمن المعروف أن الزراعة تعتمد في هذا الإقليم دوما على الإرواء الصناعي الذي كان لا يتم إلا بالسيطرة على الأنهار وإقامة السدود وتجفيف الأهوار. إن الري -كما هو معروف- كان الدعامة الأساس في الحياة الاقتصادية لهذا الإقليم وعلى ذلك فقد تجلّت عبقرية الإنسان هنا بأجلى مظاهرها في الإرواء الصناعي وإن نشوء أول حضارة في بلاد الرافدين قد تحقق بلا أدنى ريب بعد أن سيطر سكان هذا الإقليم على الأنهار فيها وذلك عن طريق إقامة السدود وحفر الأنهار والجداول وتجفيف الأهوار, فذللوا البيئة الطبيعية واستغلوا إمكاناتها العظمى. ليس هذا فقط بل استغل العراقيون الأقدمون ارتفاع مناسيب نهر الفرات قياسا إلى دجلة فشقوا أنهارا عظيمة من الفرات إلى دجلة لتروي أراضي واسعة كانت بأحوج ما تكون إلى الماء. لقد طغت أخبار شق الأنهار والجداول على غيرها من أخبار الملوك وأعمالهم. إن حفر أو شق نهر جديد كان يعد بحد ذاته حدثا هاما يؤرخ به الكتبة الرسميون للدولة الأحداث الجسام.
نتيجة لكل هذا نلاحظ أن أول شيء يلفت النظر في العراق شهرة البلاد الزراعية إلى الأزمان المتأخرة, حتى أن الكتاب اليونان -مثل هيرودوتس- قد تحدثوا عن وفرة المحاصيل الزراعية في هذا الإقليم, وهو ما يذكرنا بتسمية المؤرخين والبلدانيين العرب لأرض العراق بـ (السواد) لكثرة زرعها وخضرتها. ومن الأمور المتفق عليها إن فن زراعة البساتين نشأ في العراق مما ساعد الإنسان كثيرا على الاستقرار ومن ثمّ نشوء الحضارات المتقدمة وتطوّرها.
والنخلة -على ما يرجح- كانت أقدم وأهم شجرة في تاريخ العراق الزراعي القديم حيث اختص العراق بزراعة النخيل منذ فجر التاريخ. وكانت العادة أن تزرع الفراغات بين النخليل بالأشجار المثمرة الأخرى مثل التين والرمان والتفاح والكروم وغير ذلك. ومايزال يعد أعظم وأوسع مركز لزراعة النخيل في العالم لاسيما المنطقتين الوسطى والجنوبية منه.
وفي سبيل تحقيق الاستقرار والأمن في البلاد, وللحفاظ على هذه المنجزات والمكاسب العظيمة كان من الضروري وجود حكومات قوية مستقرة. وكان الملك في العراق القديم على رأس السلطة حيث عدت سلطته التنفيذية والتشريعية مستمدة بشكل مباشر من الآلهة لحكم البلاد, فهو الذي كان يتولى قيادة الجيش وقت الحرب حيث أن من أولى واجباته المحافظة على حدود الوطن, وكذلك توفير الوسائل الكفيلة التي تساعد البلاد على الرخاء الاقتصادي عن طريق تنفيذ المشاريع الحيوية العامة مثل حفر القنوات والأنهار وبناء المعابد تقرّبا إلى الآلهة. لقد خلّف الكثير من الملوك العراقيين القدماء مآثر كتابية أكدوا فيها ما ذكرناه حتى أن بعضهم قد صوّر نفسه وهو يحمل سلال التراب والآجر رمز قيامه بتنفيذ المشاريع العمرانية الكبرى وبخاصة بناء المعابد تقربا للآلهة. والكثير منهم قنّنوا الشرائع والقوانين في سبيل تنظيم الحياة العامة ونشر العدل بين الرعية.
”
تعتبر الشرائع المدونة في العراق هي الأقدم في تاريخ العالم ويلاحظ أنها دونت بأسلوب علمي وبلغة قانونية دقيقة
”
ومن الأمور المعروفة للجميع أن أولى الشرائع المدّونة في العالم قد ظهرت في العراق القديم, وهناك من الإشارات ما يدل بشكل قاطع على ظهور القوانين المدونة في عصور فجر السلالات. إن الشرائع في العراق القديم لم تكن أولى الجهود البشرية في تنظيم الحياة الاجتماعية فحسب بل إنها دوّنت بأسلوب علمي وبلغة قانونية دقيقة. إنها قوانين بهيئة مواد متسلسلة مقتصرة على الشؤون المدنية لا تتعرض للعبادات في شيء.
وكان من تمسّك سكان العراق الأقدمين باحترام القانون والنظام أن تصوروا الكون كله على هيئة مملكة تحكمها الآلهة يتجلى فيها مبدأ الطاعة وبخاصة طاعة القوانين والسير بموجب أنظمة المجتمع وأعرافه الشفهية والمدونة. وبلغ من تقديرهم لفضيلة الطاعة أنهم تخيّلوا ظهور عهد ذهبي بين البشر في يوم ما تسود فيه الطاعة والنظام وسيادة القانون.
ومن ثمرات الحضارة الناضجة نشوء الصناعات الأولى وكذلك التجارة وبخاصة التجارة الخارجية لجلب المواد الخام التي اعتمدت عليها تلك الصناعات. ومن البديهي أن يصاحب كل ذلك تقدم العلوم والآداب والفلسفة.
وفي العراق القديم بدأت أولى المحاولات الفلسفية الجريئة الخاصة بأصل الكون والوجود والأساس في مكونات المادة. ومن المؤكد أن السومريين قد سبقوا الفلاسفة الإغريق بقولهم بمبدأ العناصر الأربعة الأولية التي عدت أصل جميع الأشياء.
ومن البديهي أن يولي العراقيون القدماء أيضا الأدب الكثير من اهتمامهم. لقد كان شأنه شأن الآداب العالمية القديمة الأخرى يشرك الآلهة في الملاحم والقصص أو الأساطير. أما الشعر السومري والبابلي فقد كان يخضع لفن خاص من النظم والتأليف فهو موزون ولكنه غير مقفى. إنه من النوع المعروف في الوقت الحاضر بالشعر المرسل. وما خلفه لنا العراقيون القدماء من الروائع الأدبية أكثر من أن تحصى, ربما أهمها (ملحمة جلجامش) و (قصة الخليقة) و (قصة الطوفان) وعدد كبير جدا من الأساطير.
وفي باب العلوم الصرفة كالرياضيات مثلا عرف البابليون أسسا مهمة في خواص الأعداد وكذلك في العمليات والطرق والمعادلات الجبرية الأساسية. من ذلك مثلا معادلات الدرجة الأولى بأنواعها المختلفة فضلا عن معادلات الدرجة الثانية والثالثة. لقد اتبعوا في طرق حلها عمليات مدهشة لا تكاد تصدق لتطابقها مع الطرق العلمية الحديثة. ومما يقال اليوم بوجه عام إن الفضل في تقدم الجبر الحديث يعود إلى البابليين والعرب أكثر مما يعود إلى اليونان.
ومن الأمور المتفق عليها أيضا في تاريخ المعارف البشرية أن البابليين هم الذين أسسوا علم الفلك الرياضي، وبدؤوا يدونون ملاحظاتهم وإرصاداتهم أو حساباتهم الفلكية منذ العهد الأكدي، وتقدم هذا العلم إلى درجة كبيرة مذهلة في العهد البابلي القديم. أما معرفتهم بالعلوم الطبيعية مثل علم الكيمياء, على سبيل المثال وبخاصة ما يتعلق منها بخواص المواد وتأثير الحرارة فيها أو العوامل الطبيعية الأخرى فقد بدأت عندهم في وقت مبكر جدا والتي لا سبيل في هذا الملخص من الدخول في تفاصيلها الدقيقة.
الأكدية سرجون خمسة وخمسين عاما أدخل خلالها الكثير من الإصلاحات على نظام الحكم والجيش بما في ذلك تطوير أساليب الحرب والسلاح. وكذلك حصل تقدم عظيم في العمارة والفنون بعامة التي تميزت في العصر الأكدي بالقوة والحيوية والحركة. ويعد (نرام - سين) أقوى ملوك السلالة لأاكدية الذي حكم زهاء أربعين عاما.
مدينة بابل
آخر العهود العراقية الزاهرة في العصور القديمة (626-539ق.م.). ويعد حكم نبوخذنصر الثاني (604-562ق.م.) بحق من العهود المجيدة في التاريخ البشري عموما وفترة انتعاش قوية عاشتها الحضارة البابلية, فلم تسجل الكتابات التي خلفها هذا الملك إلا أخبار البناء والتعمير في جميع مدن العراق المهمة. من أعماله العمرانية الرئيسة كان بناء الزقورة وتشييد عدد كبير من المعابد الفخمة في بابل. وكان من جملة إنجازاته في هذا الميدان أيضا إقامة شارع رائع عرف بشارع الموكب ومدخل مهيب ضخم يدعى بباب عشتار, يقع وراء هذا الباب قصره الفخم بجنائنه المعلّقة الذي عرف في المصادر اليونانية بإحدى عجائب الدنيا السبع.
وفي زمنه أعلنت دولة (يهودا) الصغيرة العصيان مع عدد من الدويلات الشامية الصغيرة الأخرى بتحريض من الفراعنة التي لم تكترث لنصائح النبي (ارميا) وتحذير ملكها (يوهوياقين) بوخامة العاقبة. فجرد نبوختنصر حملة تأديبية لم تقو (يهودا) على مقاومتها فسقطت العاصمة (أورشليم) في عام 596 ق.م. فرحّل قسم من سكانها ومعهم ملكهم عن فلسطين. ونصّب نبختنصر بدلا عنه عمه (صدقيا). وبعد بضع سنوات اشتركت (يهودا) في عصيان جديد وبتحريض من الفراعنة أيضا الذين حاولوا استرجاع مكانتهم في سوريا وفلسطين. لقد كان غضب الملك البابلي في هذه المرة عظيما فدمّر المدينة وأحرق الهيكل ورحّل من سكانها عددا كبيرا جدا إلى العراق واضعا بذلك حدا لمملكة يهودا. لقد وقع ذلك الحدث بسنة 594 ق.م.
خلف هذا الملك العظيم عدد من الملوك الضعاف وبخاصة آخرهم نبونائيد (555-539 ق.م.) فتدهورت الأوضاع في البلاد خلال عهودهم وانتهت تلك الإمبراطورية العظيمة بسقوط بابل على يد (كورش) ملك الإخمينيين بسنة 539 ق.م. وليعفى على حضارة العراق وتطمر علومه وأمجاده لقرون طويلة تلت.
سابعاً: إنجازات العراق القديمة
السواقي وعودة للتاريخ
إذا انتقلنا إلى نشوء أولى الحضارات في العراق القديم يمكن القول إنها كانت بجهود العراقيين الأوائل في تفاعلهم مع البيئة الطبيعية في وسط وجنوبي العراق. فمن المعروف أن الزراعة تعتمد في هذا الإقليم دوما على الإرواء الصناعي الذي كان لا يتم إلا بالسيطرة على الأنهار وإقامة السدود وتجفيف الأهوار. إن الري -كما هو معروف- كان الدعامة الأساس في الحياة الاقتصادية لهذا الإقليم وعلى ذلك فقد تجلّت عبقرية الإنسان هنا بأجلى مظاهرها في الإرواء الصناعي وإن نشوء أول حضارة في بلاد الرافدين قد تحقق بلا أدنى ريب بعد أن سيطر سكان هذا الإقليم على الأنهار فيها وذلك عن طريق إقامة السدود وحفر الأنهار والجداول وتجفيف الأهوار, فذللوا البيئة الطبيعية واستغلوا إمكاناتها العظمى. ليس هذا فقط بل استغل العراقيون الأقدمون ارتفاع مناسيب نهر الفرات قياسا إلى دجلة فشقوا أنهارا عظيمة من الفرات إلى دجلة لتروي أراضي واسعة كانت بأحوج ما تكون إلى الماء. لقد طغت أخبار شق الأنهار والجداول على غيرها من أخبار الملوك وأعمالهم. إن حفر أو شق نهر جديد كان يعد بحد ذاته حدثا هاما يؤرخ به الكتبة الرسميون للدولة الأحداث الجسام.
نتيجة لكل هذا نلاحظ أن أول شيء يلفت النظر في العراق شهرة البلاد الزراعية إلى الأزمان المتأخرة, حتى أن الكتاب اليونان -مثل هيرودوتس- قد تحدثوا عن وفرة المحاصيل الزراعية في هذا الإقليم, وهو ما يذكرنا بتسمية المؤرخين والبلدانيين العرب لأرض العراق بـ (السواد) لكثرة زرعها وخضرتها. ومن الأمور المتفق عليها إن فن زراعة البساتين نشأ في العراق مما ساعد الإنسان كثيرا على الاستقرار ومن ثمّ نشوء الحضارات المتقدمة وتطوّرها.
والنخلة -على ما يرجح- كانت أقدم وأهم شجرة في تاريخ العراق الزراعي القديم حيث اختص العراق بزراعة النخيل منذ فجر التاريخ. وكانت العادة أن تزرع الفراغات بين النخليل بالأشجار المثمرة الأخرى مثل التين والرمان والتفاح والكروم وغير ذلك. ومايزال يعد أعظم وأوسع مركز لزراعة النخيل في العالم لاسيما المنطقتين الوسطى والجنوبية منه.
وفي سبيل تحقيق الاستقرار والأمن في البلاد, وللحفاظ على هذه المنجزات والمكاسب العظيمة كان من الضروري وجود حكومات قوية مستقرة. وكان الملك في العراق القديم على رأس السلطة حيث عدت سلطته التنفيذية والتشريعية مستمدة بشكل مباشر من الآلهة لحكم البلاد, فهو الذي كان يتولى قيادة الجيش وقت الحرب حيث أن من أولى واجباته المحافظة على حدود الوطن, وكذلك توفير الوسائل الكفيلة التي تساعد البلاد على الرخاء الاقتصادي عن طريق تنفيذ المشاريع الحيوية العامة مثل حفر القنوات والأنهار وبناء المعابد تقرّبا إلى الآلهة. لقد خلّف الكثير من الملوك العراقيين القدماء مآثر كتابية أكدوا فيها ما ذكرناه حتى أن بعضهم قد صوّر نفسه وهو يحمل سلال التراب والآجر رمز قيامه بتنفيذ المشاريع العمرانية الكبرى وبخاصة بناء المعابد تقربا للآلهة. والكثير منهم قنّنوا الشرائع والقوانين في سبيل تنظيم الحياة العامة ونشر العدل بين الرعية.
”
تعتبر الشرائع المدونة في العراق هي الأقدم في تاريخ العالم ويلاحظ أنها دونت بأسلوب علمي وبلغة قانونية دقيقة
”
ومن الأمور المعروفة للجميع أن أولى الشرائع المدّونة في العالم قد ظهرت في العراق القديم, وهناك من الإشارات ما يدل بشكل قاطع على ظهور القوانين المدونة في عصور فجر السلالات. إن الشرائع في العراق القديم لم تكن أولى الجهود البشرية في تنظيم الحياة الاجتماعية فحسب بل إنها دوّنت بأسلوب علمي وبلغة قانونية دقيقة. إنها قوانين بهيئة مواد متسلسلة مقتصرة على الشؤون المدنية لا تتعرض للعبادات في شيء.
وكان من تمسّك سكان العراق الأقدمين باحترام القانون والنظام أن تصوروا الكون كله على هيئة مملكة تحكمها الآلهة يتجلى فيها مبدأ الطاعة وبخاصة طاعة القوانين والسير بموجب أنظمة المجتمع وأعرافه الشفهية والمدونة. وبلغ من تقديرهم لفضيلة الطاعة أنهم تخيّلوا ظهور عهد ذهبي بين البشر في يوم ما تسود فيه الطاعة والنظام وسيادة القانون.
ومن ثمرات الحضارة الناضجة نشوء الصناعات الأولى وكذلك التجارة وبخاصة التجارة الخارجية لجلب المواد الخام التي اعتمدت عليها تلك الصناعات. ومن البديهي أن يصاحب كل ذلك تقدم العلوم والآداب والفلسفة.
وفي العراق القديم بدأت أولى المحاولات الفلسفية الجريئة الخاصة بأصل الكون والوجود والأساس في مكونات المادة. ومن المؤكد أن السومريين قد سبقوا الفلاسفة الإغريق بقولهم بمبدأ العناصر الأربعة الأولية التي عدت أصل جميع الأشياء.
ومن البديهي أن يولي العراقيون القدماء أيضا الأدب الكثير من اهتمامهم. لقد كان شأنه شأن الآداب العالمية القديمة الأخرى يشرك الآلهة في الملاحم والقصص أو الأساطير. أما الشعر السومري والبابلي فقد كان يخضع لفن خاص من النظم والتأليف فهو موزون ولكنه غير مقفى. إنه من النوع المعروف في الوقت الحاضر بالشعر المرسل. وما خلفه لنا العراقيون القدماء من الروائع الأدبية أكثر من أن تحصى, ربما أهمها (ملحمة جلجامش) و (قصة الخليقة) و (قصة الطوفان) وعدد كبير جدا من الأساطير.
وفي باب العلوم الصرفة كالرياضيات مثلا عرف البابليون أسسا مهمة في خواص الأعداد وكذلك في العمليات والطرق والمعادلات الجبرية الأساسية. من ذلك مثلا معادلات الدرجة الأولى بأنواعها المختلفة فضلا عن معادلات الدرجة الثانية والثالثة. لقد اتبعوا في طرق حلها عمليات مدهشة لا تكاد تصدق لتطابقها مع الطرق العلمية الحديثة. ومما يقال اليوم بوجه عام إن الفضل في تقدم الجبر الحديث يعود إلى البابليين والعرب أكثر مما يعود إلى اليونان.
ومن الأمور المتفق عليها أيضا في تاريخ المعارف البشرية أن البابليين هم الذين أسسوا علم الفلك الرياضي، وبدؤوا يدونون ملاحظاتهم وإرصاداتهم أو حساباتهم الفلكية منذ العهد الأكدي، وتقدم هذا العلم إلى درجة كبيرة مذهلة في العهد البابلي القديم. أما معرفتهم بالعلوم الطبيعية مثل علم الكيمياء, على سبيل المثال وبخاصة ما يتعلق منها بخواص المواد وتأثير الحرارة فيها أو العوامل الطبيعية الأخرى فقد بدأت عندهم في وقت مبكر جدا والتي لا سبيل في هذا الملخص من الدخول في تفاصيلها الدقيقة.